عُدت لتوي من جنازة وأنا أفكر بالأجر العظيم الذي أضفته إلى رصيدي والذي يقدر بكم من الحسنات يعادل أو يزيد على حجم جبل أُحد وفي نفس الوقت كنت أحاور نفسي على الحكمة من وراء هذا الأجر بمقابل ما أفعله بمشاركتي في جنازة وهو ليس بعناء الصوم ومشقته ولا بالزكاة والصلاة والحج والعمرة وما يترتب عليها من جهد وتعب .
صرت أقول بأنه طالما أن تبسمي في وجه أخي صدقة والكلمة الطيبة صدقة وإماطة الأذى عن الطريق صدقة وكظم الغيظ وغض البصر وإكرام الجار والصبر والحمد والشكر والتسبيح والاستغفار وتلاوة القرآن وفي الخطى إلى المساجد والمشاركة في حلقات العلم وكلها أمور سهلة في ظاهرها صعبة في جوهرها إذا ما كانت بالصدق وخالصة لوجه الله لا رياء ولا غاية ولا مجاملة أو خوف أو خجل فيها .
طالما أنه كل ما يترتب على الإنسان لأن يقطف جبال من الحسنات هذه السهولة وبهذه البساطة ففي ذلك حكمة ورحمة وفضل من الله على بني الإنسان.
ولكن ما الحكمة في هذا الأجر بمشاركتي في جنازة مشاركة صورية لا يصل إلى قلبي ووجداني وعقلي وكياني منها أدنى اعتبار وربما سعيت في ذلك إلى أداء مجرد واجب اجتماعي بتواجدي مع المتواجدين كما في سائر المناسبات لا أستشعر الفرح مع الفرحين ولا استشعر الحزن مع الحزِنين ولا أحس بعظمة الموقف في مولود جديد ولا في زواج قريب ولا في عيادة مريض ولا في موت عزيز.
تراني قائلاً أنه فرض كفاية لأكون أنا المستكفى وليس الكافي ولا تراني أقول لنفسي لماذا لا أجعله على نفسي فرض عين في بلدي ومع أهل بلدي ويكون حكمي على ذلك بالمشاركة قدر الإمكان في ذلك من باب حق المسلم على المسلم لكنك ترى أن المستنكفين كثر بعذر وبدون عذر وكثيراً ما تكون المشاركة لقرابة دنيا ودم أو الحكم على المتوفى أو عائلته أو مكانته أو مصلحة دنيوية تربطنا به وبهم .
تراني مسرعاً إذا ما شاركت , كل همي أن ينتهي أو ينقضي هذا الواجب أو هذا الدَيْن بسرعة ولا مكان للفرح في قلبي مع نفسي فكيف أفرح مع غيري , ولا مكان للحزن في قلبي على نفسي فكيف أحزن على غيري؟
تراني قائلاً بأن هذه فرصة لأزور قبر والديَّ أو قبور أقربائي فأصيب أجرين .
خرجت من المسجد أبحث عن رفيق يحملني وأحمله حتى نصل إلى المقبرة , نتسامر ونتذاكر أو نتحاسب ونتعاتب , نشعل سيجارة , يغيب عنا رهبة الموقف نتأفف من حبات المطر أو من الحر الشديد , نضج بالبطء والوقت الطويل ومراسم الدفن والتأبين , نقف بين القبور لا نريد أن ننظر , تأخذنا الجنازة لتذكرنا بمصيرنا الذي سنألوا إليه عن قريب أو بعيد , لنعيش لحظات من حياتنا بالقرب من هاذم اللذات كي نعود بعزم جديد وإصرار عتيد وتغيير أكيد , لكننا تجاهلنا هذا كله بعقلنا الباطني وتمسكنا بالحياة وشعابها , قضينا الوقت الممل بالكلام والمصافحة والعتاب والنقاش والحوار وتلقي المكالمات الهاتفية وشؤون الساعة كأننا في مقهى , لا نسمع ولا نستمع ولا نتيح لغيرنا أن يستمع وربما انطلقت ضحكة هناك أو جدال هناك أو وشوشات والبعض يشتغل في عملية الدفن فيثار الغبار وعندما يرفع البعض أيديهم بالدعاء وقراءة الفاتحة يقترب موعد الهروب من الموت والعودة إلى الحياة .
وما أن يتحرك الجمع حتى تراهم يهرولون يسرعون يتراكضون وكل منهم تغمره السعادة والفرحة والرضا بما حاز عليه من الأجر والثواب العظيم .
نظرت إلينا في هذا الموقف ولسان حالي يقول إنّا لله وإنّا إليه راجعون !