كان التعامل المالي بين أهل الجاهلية يقوم على أساس الربا، فيقول أحدهم لمدينه، إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي، وإما أن تُربي. ثم جاء الإسلام، وحرم هذا النوع من التعامل، وأعلن حربه على الذين يتعاملون بالربا بعدُ، وحكم لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال. وقرر على إثر هذا الإعلان حكم إنظار المعسرين إلى حين يُسرهم، وذلك في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (البقرة:280). فما هو سبب نزول هذه الآية؟ وما هو المراد منها؟
يذكر المفسرون روايتين تتعلقان بسبب نزول هذه الآية، وتحددان المراد منها:
الرواية الأولى: أن ثقيفاً لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة، شكى بنو المغيرة العسرة، وقالوا: ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت قطاف ثمارهم، فنزلت هذه الآية. روى الواحدي عن الكلبي، قال: قالت بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، ولكم الربا ندعه لكم، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة، فأخرونا إلى أن قطف الثمار، فأبوا أن يؤخروهم، فأنزل الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}.
وروى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله سبحانه: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}، قال: نزلت في الربا. وعلى هذا تكون الآية نازلة في شأن الأموال الربوية فحسب، ولا تشمل الديون غير الربوية.
وقد قال بهذه الرواية غير ابن عباس: القاضي شُريح، والضحاك، والسدي، وإبراهيم النخعي، قالوا: الآية في الربا. ونُقل عن شُريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين، فقيل له: إنه معسر، فقال: إنما ذلك في الربا.
الرواية الثانية: عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله سبحانه: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}، قال: نزلت في الدَّين. وبحسب هذه الرواية تكون الآية عامة في كل من كان له قِبَلَ رجل معسر حقٌّ من أي وجهة كان ذلك الحق، من دَيْن حلال أو ربا. وذهب إلى القول بهذه الرواية - إضافة إلى ابن عباس - مجاهد وجماعة من المفسرين، قالوا: إن الآية عامة في كل دَيْن.
وكلا الروايتين لا تعارض بينهما، بيد أن الرواية الأولى خاصة بالأموال الربوية، والثانية عامة بالديون.
وقد رجح شيخ المفسرين الطبري الرواية الأولى، قال رحمه الله: "والصواب من القول في قوله: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون، قد أربوا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسراً، أو إنظار من كان منهم معسراً برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم، وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه، إن كان موسراً. وإن كان معسراً، كان مُنْظَراً برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكانت الزيادة على رأس المال ساقطة عنه".
وهذا الاختيار من شيخ المفسرين مرده إلى أن الآية وردت في سياق الحديث عن حرمة الربا، والتحذير من التعامل به، وإعلان الحرب على المصرِّين على التمادي في التعامل الربوي، وبالتالي فهي ألصق أن يكون حكمها متعلقاً بالديون الربوية.
ومع هذا، فإن الطبري استدرك قائلاً: إن الآية وإن كانت نزلت في شأن المتعاملين بالديون الربوية، فإن الحكم الذي حكم الله به، من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد إبطال الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر، في أنه مُنْظَرٌ إلى ميسرته؛ لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه.
والذي عليه أكثر أهل العلم: أن الآية عامة في كل دين؛ لأنه إذا ثبت وجوب الإنظار في صورة الربا بحكم النص، ثبت وجوبه في سائر الصور؛ للاشتراك في المعنى، وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به.
ومن هنا قال ابن عاشور: "ومورد الآية على ديون معاملات الربا، لكن الجمهور عمموها في جميع المعاملات، ولم يعتبروا خصوص السبب؛ لأنه لما أبطل سبحانه حكم الربا، صار رأس المال ديناً بحتاً، فما عُيِّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه".
وقد قرر العز ابن عبد السلام قاعدة في هذا الباب، تقول: إن ثبت عُسْرُ المدين، فلا يجوز حبسه، حتى يثبت يساره؛ لأن الأصل بقاء عسرته.