تكرار الألفاظ والآيات في القرآن الكريم لم يأتِ عبثاً، فالله سبحانه منزه عن العبث، وبالتالي فإن هذا التكرار لا بد أن يكون لحكمة ما، عَلِمَها من علمها، وجَهِلَها من جهلها، فقد نجهلها اليوم، ونعلمها غداً، وقد يجهلها قوم، ويعلمها آخرون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومما جاء من هذا الباب قوله سبحانه: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } (البقرة:134،141). فهذه الآية تكررت مرتين بين آيات متقاربة، فهل ثمة فائدة تُذكر من وراء هذا التكرار؟
للعلماء في بيان فائدة هذا التكرار اجتهادات وآراء، نسوق إليك ما وقفنا عليه:
أولاً: ذكر الخطيب الإسكافي أن الآية جاءت بعد قوله سبحانه: { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون } (البقرة:133)، ومعناه: أن إسرائيل عليه السلام قرر بنيه على عبادتهم التي ثبتت عندهم، ووصاهم بها، فقال تعالى لهؤلاء: أتنفون ما ثبت من وصية يعقوب عليه السلام بنيه، وتقريره إياهم، وإقرارهم بها، والأمة قد انقضت، وحالها في عبادتها قد ثبتت. ومن نفى ما ثبت من الدين، فقد دخل في الكفر. فهذه الآية الأولى جاءت عقب تقرير يعقوب عليه السلام لبنيه، وإقرارهم له.
والآية بعينها كُررت بعد قوله تعالى: { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } (البقرة:140)، أي: أم أنتم تُثبتون ما هو منتف، ومن أثبت في الدين ما ليس منه، فهو في الإثم كمن نفى عنه ما هو منه. ففي الأول نفي ما هو ثابت من إقرار بني إسرائيل ، وفي الثاني إثبات ما هو منتف من كون إبراهيم و إسماعيل و إسحاق كانوا هوداً أو نصارى، وكل واحد من هذين يوجب من البراءة، ويستحق به من غلظ الوعيد، والتخويف بالعقاب، والتنبيه على الكبيرة التي تحبط الحسنات، مثل ما يوجبه الآخر، فلذلك أعيد في الدعوى الثانية الباطلة ما قَدَّم في الدعوى الأولى الكاذبة، وكما استحقت تلك براءة الذمة من قائلها، وتنبيهه على فساد قوله، كذلك استحقت هذه فصارت الثانية في مكانها، وحقِّها كما وقعت الأولى في محلها ومستحقها، فلم يكن ذلك تكراراً، بل كان وعيداً عقيب كبيرة، كما كان الأول وعيداً عقيب كبيرة أخرى غير الثانية.
ثانياً: قال الرازي : إنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن، لم يكن التكرار عبثاً، فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر، فوَصْفُ هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين، لا يسوغ التقليد في هذا الجنس، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم، ولا تسألون إلا عن عملكم.
ثالثاً: قال أبو حيان ما حاصله: ليست الآية الثانية تكراراً للأولى؛ لأن الثانية وردت إثر شيء مخالف لما وردت الآية الأولى بإثره. وإذا كان كذلك، فقد اختلف السياق، فلا تكرار. بيان ذلك: أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء، فتلك إشارة إليهم، والثانية وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى، فالمشار إليه هم. فقد اختلف المخبر عنه والسياق. والمعنى: أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدمهم، يجازون بما كسبوا، فأنتم أحق بذلك.
رابعاً: ذهب ابن عاشور إلى أن الغرض من التكرار زيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين؛ اهتماماً بما تضمنه؛ لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين، فلم يقتنع فيه بمرة واحدة. ومثل هذا التكرار وارد في كلام العرب: قال الشاعر:
فتنازعا سَبِطاً يطير ظلاله كدخان مشعلة يُشَبُّ ضِرَامُها
مَشْمُولةٍ غُلِثَتْ بِنَابت عَرْفَجِ كدخان نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُها
فإنه لما شبه الغبار المتطاير بالنار المشبوبة، واستطرد بوصف النار، بأنها هبت عليها ريح الشمال، وزادتها دخاناً، وأوقدت بالعرفج الرطيب لكثرة دخانه، أعاد التشبيه ثانياً؛ لأنه غريب مبتكر. وكذلك الأمر في الآية هنا، أعادها ثانية ليرسخ في نفوس السامعين أن لكلٍّ سعيه وعمله، ولكلٍّ جزاؤه وعقوبته، ولا يؤخذ أحد بجريرة أحد. وهذا المعنى مؤكد في كثير من آيات القرآن.
وحاصل ما نقلناه من أقوال بخصوص هذا التكرار، يرجع إلى أمرين اثنين:
الأول: أن التكرار منتفٍ؛ لاختلاف السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين.
الثاني: أن القصد من التكرار تأكيد وترسيخ مضمون الآية، وهو أن لكل نفس جزاء سعيها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } (الزلزلة:7-
.