ماذا عن سيِّد الأيام؟

ماذا عن سيِّد الأيام؟

د.حسن أبوغدة

يوم الجمعة أحد أيام الأسبوع، سُـمِّي بذلك لأن آدم ص جُمع خلقه فيه، أي كان خلقه في يوم الجمعة كما سيأتي، وقيل: لأن قريشًا كانت تجتمع فيه إلى قصي في دار الندوة، وقيل: لأن أهل الإسلام يجتمعون فيه للصلاة، وكان يقال له في الجاهلية: يوم العَروبة.ليوم الجمعة منزلة عالية في الإسلام، فهو سيد أيام الأسبوع، وأفضلها عند الله تعالى، وبه اختصَّ أمة الإسلام دون غيرها، روى مسلم وبعض أصحاب السنن عن رسول الله ص أنه قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خَلقَ الله آدم، وفيه أُدخل الجنة...».وروى مسلم وابن ماجة والبزار أن رسول الله ص قال: «أضل الله تبارك وتعالى عن الجمعة من كان قبلنا، كان لليهود يوم السبت، والأحد للنصارى، وهدانا الله ليوم الجمعة، فهم لنا تبع إلى يوم القيامة، نحن الآخِرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيُّ لهم قبل الخلائق».
إجابة الدعاء يوم الجمعة
خص الله تعالى يوم الجمعة بساعة مباركة يُستجاب فيها الدعاء، روى الشيخان أن رسول الله ص ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، وأشار بيده يقلِّلُها».
وقد اجتهد العلماء في تحديد وقت هذه الساعة المباركة، فقال بعضهم: هي من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقال قوم: هي عند زوال الشمس وقت خطبة وصلاة الجمعة. وقال آخرون: هي من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.. وقيل غير ذلك.
والذي يبدو أن الله تعالى أبهم وقتها، وجعلها شائعة في كل يوم الجمعة، غير معروفة الوقت بالتحديد؛ ليزيد الناس من إقبالهم على تحرِّيها وطلبها في عموم اليوم، فتزداد أعمالهم صلاحًا، وتوثق صلتهم بالله تعالى، ويقوِّي إيمانهم به سبحانه، وتسعد حياتهم.
تراتيب هادفة في يوم الجمعة
إذا كانت هذه منزلة يوم الجمعة عند الله تعالى، فجدير بالمسلم أن يتحرَّى ما شرعه الله تعالى في هذه المناسبة الأسبوعية من أحكام وآداب وتراتيب هي أشبه بجدول أعمال، يُقصد به تحقيق قدر أعلى من السموِّ الروحي والتواصل الاجتماعي بين المسلمين.. ومن هذه التراتيب والآداب ما يلي:
أولًا: عدم إفراد الجمعة بالصوم
من صفات يوم الجمعة أنه يوم التقاء المسلمين وتواصلهم، فيه يجتمعون ويتزاورون، ويكرِّم بعضهم بعضًا وهو بهذا الوصف لا يصلح أن يُفرد بالصوم، لما قد يسببه من وحشة في نفوس المضيفين، وفي هذا روى البيهقي أن رسول الله ص قال: «إن يوم الجمعة يوم عيد وذكر، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيام، ولكن اجعلوه يوم فطر وذكر، إلا أن تخلطوه بأيام» أي قبله أو بعده.
ثانيًا: فضل ليلة وفجر الجمعة
فضَّل اللهُ الأوقات بعضها على بعض، وخصَّ كلًّا منها بمزية وثواب، من ذلك ليلة وصباح الجمعة، ففي ليلته تعرض الأعمال على الله تعالى، وفي فجره يغفر للمصلين، روى البخاري في تاريخه وأحمد في مسنده أن النبي ص قال: «إن أعمال بني آدم تعرض على الله تعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم». وروى الطبراني والبيهقي أن رسول الله ص قال: «ليس من الصلوات صلاة أفضل من صلاة الفجر يوم الجمعة في الجماعة، وما أحسب من شهدها منكم إلا مغفورًا له».فأين من هذه المغفرة، وأين من ذاك الثواب.. أولئك الذين يُطيلون السهر ليلة الجمعة في اللهو والغفلة ثم ينامون عن صلاة الفجر التي تشهدها ملائكة الرحمن؟!
ثالثًا: سلوك صحي ومظهر اجتماعي
شرع الله تعالى ليوم الجمعة مجموعة آداب وفضائل يتجلى فيها سلوك صحيٌّ ومظهر اجتماعي في حياة كل مسلم، ومن ذلك أنه دعا إلى الاغتسال في يوم الجمعة، ورغَّب في النظافة والتطيُّب والظهور للناس بهيئة حسنة ومظهر جميل، روى ابن خزيمة في صحيحه أن رسول الله ص قال: «إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه، ثم تطيب من أطيب طيبه، ولبس من صالح ثيابه، ثم خرج إلى الصلاة، ولم يفرِّق بين اثنين، ثم استمع إلى الإمام، غفر له من الجمعة إلى الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام».وبهذا فتح الإسلام للمسلمين مبدأ الحرص على الصحة العامة والسعي في تحسين المظهر في كل وقت وحين، وبخاصة عند التقائهم ببعضهم بعضًا واجتماعهم في المحافل والمنتديات.
رابعًا: قراءة سورة من القرآن
من السلوك الإسلامي المرغوب فيه يوم الجمعة قراءة بعض السور من القرآن، والتدبر في مضامينها والاعتبار بما فيها، ومن هذه السور: سورة هود، والكهف، ويس، والدخان.
روى البيهقي أن النبي ص قال: «اقرأوا سورة هود يوم الجمعة»، وفي رواية أخرى له: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين».وقد ورد في الأثر أنه: «من قرأ سورة يس في ليلة الجمعة غُفِر له».
وورد أيضًا أن: «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بها بيتًا في الجنة».
ومما يجدر ذكره هنا أن هذه السور الأربع مكية، وهي تُعنى بالبناء العقدي للمسلم، وتمنحه مزيدًا من المشاعر الإيمانية، ومعرفة بحياة النبيين ودعاة الخير في الأمم السابقة وما عانوه من ابتلاء وشدة، بسبب تمسكهم بتعاليم الله وشرائعه حتى كتب الله تعالى لهم ولدعواتهم التأييد والنصر.
وجدير بالمسلم أن يستلهم هذه العبر من تلك السور، ليتقوى بها على مصابرة الحياة ومجالدة أهل الباطل في كل زمان ومكان.
خامسًا: الإكثار من الصلاة على النبي ص
وردت أحاديث فيها دعوة المسلم إلى الإكثار من الصلاة على النبي ص في ليلة ويوم الجمعة، ومن ذلك حديث البيهقي: «أكثروا من الصلاة عليَّ في ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فمن فعل ذلك كنت له شهيدًا وشافعًا يوم القيامة».
ولا شك أن للنبي ص حقًّا على عموم المسلمين؛ لأنه الهادي إلى الخير والمخلِّص من النار، فكان الواجب على كل مسلم أن يثني على هذا النبي الكريم، وبخاصة في هذه المناسبة الأسبوعية التي يتصاعد فيها السلوك الإسلامي وترتقي فيها الأحاسيس والمشاعر الدينية، لتتوافق مع دعوات القرآن: {يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلِّموا تسليمًا} (الأحزاب: 65).فضلًا عما في الإكثار من الصلاة عليه من وجوه الدلالة على شدة محبته والرغبة في القرب منه والتأسي بسلوكه ص.ومن المقولات الشائعة ذات الدلالات المسلمة: «من أحب أمرًا أكثر من ذكره».
فهلاَّ حرص المسلمون على الالتزام بذلك في كل حال ووقت، وبخاصة في ليلة ويوم الجمعة اللذين سمَّاهما النبي ص الليلة الزهراء، واليوم الأزهر.
سادسًا: التبكير إلى المساجد وتجنب تخطي الرقاب
التبكير إلى المساجد، مما يدل على محبة القرب من الله تعالى والالتجاء إليه سبحانه في بيوته التي أذن الله أن يرفع شأنها على غيرها، حيث تتوارد عليها الملائكة، وتحفُّها السكينة، ويستحب فيها الخشوع، ويزيد فيها الإيمان. روى أحمد أن رسول الله ص قال: «إذا كان يوم الجمعة خرجت الشياطين يؤخرون الناس في أسواقهم، وتقعد الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس على قدر منازلهم: السابق والمصلي والذي يليه، حتى يخرج الإمام».وفي رواية أخرى له: «تقعد الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد معهم الصحف يكتبون الناس، فإذا خرج الإمام طويت الصحف».
أما تخطي الرقاب وإيذاء الناس وهم جلوس في المساجد مندمجون في العبادة بصفاء ونقاء وطهر نفس، فذلك من أبْغَضِ الأعمال عند الله تعالى، لما يتضمنه من إضاعة لوقار المسجد، وتعدّ على مقامات الناس فيه، حيث تتساوى الأرجل والمناكب ويُؤذى الناس في مشاعرهم ونفوسهم.روى الترمذي وابن ماجة أن رسول الله ص قال: «من تخطَّى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرًا إلى جهنم».وروى أحمد وبعض أهل السنن أن رجلًا جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي ص يخطب فقال له: «اجلس، فقد آذيت وآنيت»، ومعنى آنيت: تأخرت في المجيء، ثم آذيت الناس بهذا الفعل.
سابعًا: الإنصات لخطبة الجمعة
شرع الله تعالى خطبة الجمعة نقطة انطلاق لدراسة ومعالجة المشكلات الأسبوعية في المجتمع، وتوعية الناس وتبصيرهم بأمور الدين، وتحديد موقف الإسلام مما يَجِدُّ في الحياة من أحداث ووقائع، ودعا المسلمين إلى الإنصات لخطيب الجمعة ومتابعة كلامه والاستفادة منه، وذلك لتحقيق أعلى قدر من أهداف خطبة الجمعة وما تتضمنه من توعية وتوجيه ومعالجة لقضايا الأمة، فضلًا عمَّا في الاستماع والإنصات من دلالة على قوة الاستقبال عند المستمع وتطلعه للاستفادة من كل ما يلقى عليه من توجيه وموعظة.وقد حذَّر النبي ص جماعة المسلمين من الإعراض عن خطيب الجمعة أو التشاغل عن سماع كلامه، وأنَّ ذلك قد يحبط العمل ويضيع الثواب، ففي حديث للشيخين عن رسول الله ص أنه قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت»، أي: لم تنل ثواب صلاة الجمعة.
وروى أحمد والبزار والطبراني أن رسول الله ص قال: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة»، وذلك لأن كليهما انشغلا عن متابعة خطبة الجمعة والاستفادة مما فيها، فضلًا عما في توسع الحديث بين الحاضرين- حال خطبة الإمام- من انتشار للضوضاء والفوضى، وتعطيل لأهداف خطبة الجمعة وإخلال بمكانة المسجد ووقار المناسبة.ومن مثل ما تقدم في السلبية وقلة الثواب التأخر عمدًا عن حضور بدء خطبة الجمعة، والغفلة أو النوم حال خطبة الإمام أو الانشغال عن سماع الخطبة بأي شاغل أو صارف؛ لأن هذه الأمور ونحوها مما لا يتحقق معها الهدف المنشود من مشروعية خطبة الجمعة.
معالم حضارية أخرى
في يوم الجمعة
يشتمل يوم الجمعة على معالم حضارية أخرى ترتقي بالفرد المسلم وبالمجتمع المسلم نحو الكمال والعزة والسمو، ومن ذلك: أن يوم الجمعة يمثل منارة في النظام الاجتماعي الذي يمارسه المسلمون بسمو واحترام، فكل شيء فيه له وقته ومناسبته وترتيبه من نظافة ثم تطيِّب ثم تبكير إلى المسجد، ثم قراءة للقرآن وصلاة على النبي ص ثم إنصات لخطبة الجمعة.ومن تلك المعالم الحضارية أنه في يوم الجمعة تتجلى الوحدة الإنسانية بين الجميع، لا فرق بين كبير وصغير، وغني وفقير، وقريب وغريب، الكل سواسية، يمارسون عباداتهم بحرية كاملة وصفاء مشهود، دون تعصب أو تفرقة، أكرمهم عند الله أتقاهم.ومن ذلك أيضًا أن يوم الجمعة مناسبة كريمة لتجديد العلاقات وتوثيق الصلات بين أهل الحي بعضهم ببعض، وبين الأصحاب والمعارف الذين قد لا تمكنهم ظروفهم وأحوالهم من لقاء بعضهم بعضًا إلا في صلاة الجمعة في المسجد الجامع.
خاتمة
وهكذا إذا تأملنا في مجموع ما سبق يتبين لنا أن هناك أهدافًا روحية وتربوية واجتماعية وقيمًا حضارية يقصدها الإسلام في جملة أحكامه وآدابه التي شرعها في يوم الجمعة، ومن هنا كان يوم الجمعة سيد أيام الأسبوع وأفضلها