ظهر الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أمام الشاشات لأول مرة بعد تنحيه قبل 6 أشهر تقريبا، داخل القفص الحديدي متهما بقتل المتظاهرين خلال ثورة يناير التي أطاحت به والتربح من وراء منصبه، وكان معه في نفس القفص نجله جمال الذي كان يعده للرئاسة من بعده ونجله الآخر علاء ووزير داخليته الذي ظل طوال 13 عاما يمارس أبشع أنواع التعذيب والقمع في حق المعارضين لمبارك..كان مشهدا تاريخيا بكل المقاييس فلأول مرة يقبع حاكم عربي داخل القفص الحديدي لكي يحاكم على جرائمه في حق شعبه فلقد كان المشهد المعتاد هو أن يقتل أو يموت أو يهرب وتختفي معه خزائن أسراره وتقفل معه آلاف الملفات والفضائح التي تظهر تفاصيل جرائمه وجرائم حاشيته ثم يأتي من بعده ليعيد الكرة حتى يأست أكثر الشعوب من الإصلاح وركنت إلى لقمة عيشها..ظهر مبارك على سرير أبيض نقال وبدت عليه علامات التقدم في السن والإعياء ولكنه كان حاضر الذهن وأجاب القاضي الذي نادى على اسمه بأنه موجود ونفى كل الاتهامات التي وجهت إليه كما تبادل الحديث مع نجليه وظهر عليه التململ عندما طالت الجلسة ووضع يده اليسرى على جبينه مخفيا وجهه..كانت الجلسة إجرائية كما هو متوقع ولم تتضح بعد معالم المحاكمة التي من المنتظر أن تمتد لشهرين على الأقل إلا أن ظهور مبارك داخل القفص أرسل العديد من الرسائل للداخل والخارج لعل من أهمها هو إصرار الثوار على إزالة النظام البائد تماما وأنه لا حلول وسط بهذا الشأن كما أن محاولات التسكين والتسويف والرهان على النسيان بمرور الوقت لن تفلح في إخماد حماسة الثورة وإصرارها على مبادئها وعلى رأسها محاكمة رموز العهد السابق وتطهير البلاد من شرورهم، كذلك منحت المحاكمة على هذا النحو الشعوب المضطهدة تحت نير الحكام المستبدين في اليمن وليبيا وسوريا وغيرها الأمل في الخلاص من الطغيان، كما قوت عزائمهم في الوقت الذي نخرت في عزائم المعسكر الآخر الذي يواصل استعلاءه على شعبه متخيلا كما كان يتخيل مبارك أنه "يختلف عن الآخرين" وهو ديدن المستكبرين حيث تصور لهم نرجسيتهم أنهم من نوعية فريدة لا تشبه بقية الناس حتى تأتي لحظة الحقيقة..إن صورة الرئيس المخلوع في قفص الاتهام لم تشف صدور المكلومين من أسر الشهداء ولا المظلومين في عهده فقط ولكنها رسالة تحذيرية لكل رئيس قادم في أي بلد تؤكد أن الشعوب استيقظت وأنها لن تصمت على هضم حقوقها بعد الآن وان على كل رئيس أن يسعى لرضا شعبه قبل أن يسعى لرضا أمريكا و"إسرائيل"، كما أراد أن يفعل جمال مبارك لكي يتمكن من خلافة والده، حيث توجه للخارج عارضا ولائه التام في حين داس على الشعب بأقدامه هو وحليفه أحمد عز الذي ادعى أن "وجود الزبالة في الشوارع" دليل على رفاهية شعب يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر..ستكشف المحاكمة حتما عن أسرار وخفايا السلطة وألاعيبها وكيفية تنويم الشعوب والسيطرة عليها وسرقتها واللعب على مشاعرها، كما ستشهد محاولة فريق الدفاع استخدام ثغرات القانون ـ وهي كثيرة ـ لإفلات مبارك وحاشيته من العقاب المناسب، ولكن سيظل ذلك أمام أعين الناس التي لن ترضى سوى بالعدل، فلقد قتل مبارك وسجن الآلاف من الأبرياء في محاكمات عسكرية مخلة لم تكفل للمحكومين الفرصة للدفاع عن أنفسهم، وكانت الأحكام موضوعة قبل بداية المحاكمة أما الآن فهو يقف أما قاض طبيعي ومعه فريق ضخم من المحامين سيدفع لهم الملايين من أموال الشعب التي سرقها هو وحاشيته..محاكمة مبارك ليست سوى خطوة صغيرة في طريق طويل لإزالة آثار العدوان الذي تعرضت له البلاد طوال عشرات السنين ولا زال هناك المزيد من الخطوات التي ينبغي أن تتخذ وأولها انتخاب برلمان ورئيس يمثلان الشعب حقا حتى يقوموا بنسف جميع القوانين المجحفة وتنظيف أركان المجتمع من الفساد وإرساء مبادئ العدل والمساواة، وهذا كله يحتاج إلى وقت وصبر ومن قبل ذلك يقظة الثوار واتحادهم ونبذهم للفرقة والاختلاف.
6/9/1432 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
المصدر: خالد مصطفى - موقع المسلم